[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
وقعت هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 بطائرات قادها اشخاص من خارج اميركا، لكن وبعد اسبوع واحد وقع هجوم إرهابي آخر.. كان داخليا، ونفذه اميركيون. لكن، غطى الاول على الثاني. لأن الاول كان كبيرا وعالميا، وقتل اكثر من ثلاثة آلاف شخص. وخلال ثلاثة ايام، كشف مكتب التحقيقات الفيدرالي (اف بي آي) الذين اشتركوا في الهجوم. وبعد سنة تقريباً، قتلت القوات الاميركية، او اعتقلت، اغلبية الذين خططوا للهجوم. وفي الاسبوع الماضي، بدأت محاكمة بعضهم في القاعدة العسكرية الاميركية في غوانتانامو. كان الهجوم الثاني صغيراً، ومحلياً، وقتل خمسة اشخاص فقط. رغم ذلك، وحتى اليوم، بعد سبع سنوات، ما زال محققو «اف بي آي» يحققون في الموضوع، ويبحثون عن الذين وراءه. فما هو هذا الهجوم الثاني الغامض والمحيِّر؟ بعد اسبوع من هجوم 11 سبتمبر، أي 18 سبتمبر، بدأت خطابات تصل الى مكاتب السناتور توم داشلي (ديمقراطي من ولاية نورث داكوتا) وزعيم الاغلبية في مجلس الشيوخ، والسناتور باتريك ليهي (ديمقراطي من ولاية فيرمونت) ورئيس لجنة الشؤون القانونية، ومجلة «ناشونال انكوايرر» الفضائحية، وجريدة «نيويورك بوست»، واهم ثلاث قنوات تلفزيون: «سي بي اس» و«اي بي سي» و«إن بي سي». فتحت بعض الخطابات، وكان في كل واحد خطاب تهديد ومسحوق سام يصيب من يستنشقه او يلمسه. ونقل 22 شخصا الى مستشفيات بعشر مدن، منهم موظفو بريد نقلوا الأظرف، وسكرتيرات فتحن الظروف، وقتل خمسة، واصيب 11 بعاهات دائمة. وكان على كل ظرف بريدي خاتم بريد من مدينة ترنتون (ولاية نيوجيرسي). وكانت خطابات التهديد عبارة عن سطور قليلة متشابهة، مكتوبة بخط يد واضح، تقول الآتي: «بعد الهجوم الجوي، جاء وقت الهجوم الكيماوي. هذا هو انثراكس. هل انتم خائفون؟ الموت لاميركا. الموت لاسرائيل. الله اكبر». أثارت كلمة أنثراكس فورا خوفا كبيرا في اميركا، وانتشر الخبر في كل مكان. فما هو الانثراكس؟ ترجمة الانثراكس العربية «الجمرة الخبيثة»، واسمه الطبي «باسيليوس انثراسيس». وأصل الكلمة «انثراكيتيس»، وهي يونانية، ومعناها الفحم، وذلك لأن الاصابة به تحرق الجلد وتسوِّدُهُ. يصيب المرضُ الحيوانات اكثر من الناس. لكنه لا يظهر الا نادراً، حتى وسط الحيوانات. غير ان العلماء العسكريين صاروا يتابعون الحيوانات التي يصيبها الانثراكس، ويستخلصونه في المعامل، ويصنعون منه اسلحة جرثومية. ينتشر الانثراكس عن طريق باكتيريا تشم عن طريق الانف، او تبلع، او تلتصق بالجسد. او لحوم حيوانات مصابة تؤكل. او عبر دم حيوان، او دم بشري، مصاب. او على جلد او صوف حيوانات مصابة.
لكن الانثراكس الذي استعمل بعد اسبوع من هجوم 11 سبتمبر، من نوع «أيمز» الذي طوره علماء الاسلحة الجرثومية من بقرة اصيبت به في تكساس، سنة 1981. وصار من اخطر انواع الاسلحة الجرثومية.
قبل ذلك، كان هؤلاء العلماء يستعملون نوع «فولام»، من بقرة اصيبت به في اكسفوردشير (بريطانيا) سنة 1935. واحضر علماء اميركيون كميات منه الى مصنع انثراكس بالقاعدة العسكرية الاميركية في فورت دتريك (قلعة دتريك) بولاية ماريلاند. في البداية اعتقد الـ«اف.بي.آي» ان الذين خططوا لهجوم 11 سبتمبر بالطائرات هم الذين خططوا لهجوم 18 سبتمبر بمادة الانثراكس. وزاد خوف الاميركيين من هجوم ارهابي كيماوي. ونشرت الصحف ان الرئيس بوش ونائبه شيني ضغطا على محققي «اف بي آي» ليعلنوا لاميركا والعالم ان الاسلاميين المتطرفين وراء ما حدث. لكن، بعد تحقيقات في ست قارات، ومقابلة 9 آلاف شخص، واجراء 70 تحقيقا، وإصدار 6 آلاف استدعاء قانوني، لم يبرهن محققو «اف بي آي» ان الاسلاميين المتطرفين وراء الحادث، بل ولم يعرفوا مَنْ وراء الحادث.
بدأت التحقيقات فورا بعد الهجوم الاولي، وبعد عام من الهجوم الجرثومي، نشرت مجلة «نيو ساينتست» (العالم الجديد) الاكاديمية المحترمة ان محققي «اف بي آي» يعتقدون ان مصدر الانثراكس هو «يوسامريد» (اختصار اسم: «مركز الامراض المعدية التابع للابحاث الطبية التابعة للجيش الاميركي»)، وهو يقع بقاعدة «فورت دتريك» العسكرية، والتي، تهكماً، يسميها بعض العاملين فيها وبعض جيرانها، «فورت دوم» (قلعة يوم القيامة)، وهي قريبة من واشنطن العاصمة، وتعد اكبر مركز في العالم لصناعة الاسلحة الجرثومية. وهكذا، بمجرد أن ذهب محققو «اف بي آي» الى «فورت دتريك» للتحقيق في مصدر هجوم الانثراكس، صار المتهم الاول هو مصنع انثراكس. ركز المحققون على 3 علماء هناك:
* الاول: د. ستيفن هاتفيل. راقبه محققو «اف بي آي» لخمس سنوات. وفي السنة الماضية، اعلنوا انهم لم يجدوا ادلة ضده. فرفع قضية تعويض للمضايقات النفسية والاساءة للسمعة. وكسب ستة ملايين دولار.
* الثاني: د. فيليب زاك، لكنه كان فصل قبل الهجوم بعشر سنوات. غير انه صار من علماء الاسلحة الجرثومية الذين يطالبون القوات الاميركية المسلحة بوقف انتاجها ووقف تخزينها. ولم يجد المحققون شيئاً ضده.
* الثالث: د. بروس آيفينز. عمل في المكان لعشرين سنة تقريباً. وفي الاسبوع الماضي، وبعد تحقيقات معه استمرت اربع سنوات، وجد منتحراً. وقالت ابنته (مثلما قال زملاؤه في المعمل) انه بريء. وانه انتحر بسبب ملاحقات ومضايقات محققي «اف بي آي» له. وما زاد من غضب أسرة وأصدقاء الدكتور ايفينز أن مكتب التحقيقات الفيدرالية أعلن لاحقا خلال نهاية الأسبوع ان القضية أغلقت وأن هناك أدلة كافية لإدانة الدكتور ايفينز، موضحة أنه خلال سنوات التحقيق والمراقبة السبع كان سلوكه مثيرا للريبة وغير طبيعي، كما ان نوع الانثراكس الذي استخدم في هجمات اميركا خرج من معمله، مشيرة الى انه لو لم ينتحر لكانت (اف بي اي) وجهت اليه اتهامات رسمية.
وذكرت شبكة التلفزيون الاميركية (ان بي سي) ان فحوص الحمض النووي الريبي (دي ان ايه) التي اجريت على المسحوق الابيض الذي عثر عليه في ظروف تنطبق على عصية الجمرة الخبيثة التي تستخدم في مختبر للنخبة للابحاث حول الاسلحة البيولوجية في فورت ديتريك في ولاية مريلاند. وكان ايفينز يعمل في هذا المختبر الذي لا يسمح سوى لحوالي عشرة اشخاص بالوصول الى هذه البكتيريا فيه. واشارت ادلة اخرى الى احتمال تورط هذا العالم. فقد تحدثت صحيفة «نيويورك تايمز» نقلا عن «شخص مطلع على مجرى التحقيق طلب عدم كشف هويته» عن صندوق بريد استأجره ايفينز ولكن باسم مستعار وشهادات ذكرت ان العالم كان يبقى في المختبر حتى ساعة متأخرة من الليل في فترة وقوع الهجمات. اما صحيفة «واشنطن بوست» فقد جمعت شهادات اشخاص قالوا ان عوارض اضطرابات عقلية بدأت تظهر على ايفينز مؤخرا.
واضافت انه ادخل الى مستشفى من اجل فحص حالته العقلية في العاشر من يوليو (تموز) وهو اليوم نفسه الذي سحب فيه رؤساؤه منه تصريح الدخول الى عدد من المواقع الحساسة في المختبر «نظرا لتدهور حالته النفسية». ونقلت «نيويورك تايمز» التي نشرت نص تصريحات طبيبته النفسية الى هيئة محلفين انه وصف لمجموعة من الاطباء النفسيين «خطة مفصلة جدا لقتل زملائه لانه كان على وشك ان يتهم بخمس جرائم قتل». وقالت مديرة برنامج مركز فريديريكس للطب النفسي في مريلاند جين دالي ان «تشخيص حالته من قبل عدد من الاطباء النفسيين يفيد انه قد يكون قاتلا مهووسا». وكان هذا المركز وراء صدور قرار الحد من المواقع التي يمكنه دخولها في المختبر وقرار ادخاله المستشفى. واكد بول كيمب الذي كان محامي ايفينز «كان يتعاون منذ ست سنوات مع التحقيق ويساعد الحكومة في كل الاسئلة التي تطرحها»، واضاف ان «الضغوط المتواصلة التي تعرض لها بسبب هذه الاتهامات والتلميحات هي التي ادت به الى الموت».
وقالت وزارة العدل الاميركية في بيان يوم الجمعة الماضي ان «التحقيق الذي يحمل اسم (اميريتراكس) واحد من اكثر القضايا تعقيدا واتساعا»، ويقوم به «17 من العناصر الخاصين في مكتب التحقيقات الفيدرالي وعشرة مفتشين في البريد». وكان هؤلاء قد رسموا صورة للقاتل: عالم محنك يعمل بمفرده او يستفيد من تواطؤ آخرين يقيم على الاراضي الاميركية وعلى علم تام بوسائل معالجة عصيات الجمرة الخبيثة الخطيرة.
إلا ان اسرة الدكتور ايفينز واخرين كان لهم موقف مختلف تماما، وهو أن تحقيقات الاعوام الماضية لم تثبت أي شيء مؤكد ضده، فلماذا فقط اعلن (اف بي اي) توجيه اتهامات رسمية لـ ايفينز بعد انتحاره، وبعدما غاب ولم يعد بمستطاعه الدفاع عن اسمه وعن نفسه؟ وكما ان هناك قضايا كثيرة تظل غامضة لا يكشف عن حقيقتها، فإن قضية هجمات الجمرة الخبيثة في اميركا او الانثراكس ربما تكون من هذه القضايا.. خاصة بعد انتحار الشخص الوحيد الذي كان يمكن ان يحل الغازها.
ما هو «الأنثراكس»؟
يُعتقد ان الـ«انثراكس» هو الطاعون السادس الذي أشارت اليه التوراة، اذ يقول سفر الخروج في التوراة: «ثم قال الرب لموسى وهارون: خذا ملء ايديكما من رماد الاتون. وليذره موسى نحو السماء، امام عيني فرعون. ليصير غبارا على كل ارض مصر. ويصير على الناس وعلى البهائم. دمامل طالعة ببثور في كل ارض مصر. فاخذا رماد الاتون، ووقفا امام فرعون، وذره موسى نحو السماء. فصار دمامل بثور طالعة في الناس والبهائم. ولم يستطع العرافون ان يقفوا أمام موسى من اجل الدمامل، لأن الدمامل كانت في كل العرافين والمصريين». واشار الى الـ«انثراكس» هوميروس، المؤرخ اليوناني الشهير. ويعتقد انه انتشر مع «الطاعون الاسود» الذي اجتاح اوروبا في القرن الرابع عشر، وقتل ثلث الاروبيين. وفي سنة 1877، اكتشف الالماني روبرت كوخ جرثومة الـ«انثراكس» في تربة مراعٍ كانت ترعى فيها أبقارٌ. وفي سنة 1881، اكتشف الفرنسي لويس باستور العلاج للحيوانات والناس. وبعد عشرين سنة، بدأ علماء عسكريون يستخرجونه في المعامل لإنتاج اسلحة جرثومية. وخلال الحرب العالمية الثانية، انتج المصنع خمسة آلاف قنبلة جرثومية، أغلبيتها من الـ«انثراكس». وخلال سنوات الحرب الباردة، عندما وقع الرئيس نيكسون اتفاقية حظر انتاج الاسلحة البيولوجية والكيماوية مع الاتحاد السوفيتي، تحول المكان الى انتاج «اسلحة دفاعية»، لكن الـ«انثراكس» ظل موجودا في المكان، ويعمل فيه ثمانية آلاف شخص تقريبا، معظمهم من العلماء العسكريين والمدنيين. وقبل سنوات قليلة، اكتشف علماء في نفس المكان اخطر انواع الـ«انثراكس». ويسمى «رستون»، ويستخرج من نوع نادر من انواع القرود، ويوجد بجنوب شرقي آسيا.
واشنطن: محمد علي صالح